تؤكد التغيرات الثورية التي وقعت في البلاد العربية أن الإسلام السياسي بقواعده الشعبية أمام فرصة تاريخية للإسهام في مشروع التحول الديمقراطي العربي، لكن هذه الفرصة تتطلب منه توضيح مدى التزامه بالديمقراطية بصفتها أكثر من انتخابات وبصفتها حقوقاً وحريات لكل فئات وأفراد المجتمع. فالثورات العربية المتفجرة لم تلتزم إيديولوجية من أجل تغيير الأنظمة ومثلت بطريقتها نقداً لفكر الطليعة الحزبية وفكر الوصاية على المجتمع. في هذا العصر تبحث المجتمعات عن التنمية كما تسعى إلى تحقيق الكرامة والعدالة إلى جانب الحقوق والحرية للأفراد. فهل يتماهى الإسلام السياسي مع هذه التوجهات؟ إن الإسلام السياسي غير معفي من ضرورات التأقلم مع مبادئ الحرية والتنمية والحقوق.
الواضح انه بضربة واحدة تبخرت مع الثورات العربية تبريرات الأنظمة الديكتاتورية القائلة بأنها ضرورة لمنع التيارات الإسلامية من إقامة أنظمة دينية تضطهد الأقليات وتفرض الشمولية على المجتمع. ومع سقوط الأنظمة تبين أن الإسلام السياسي جزء مهم من الطيف السياسي والاجتماعي. لكن الثورات العربية تعايشت فيها ظواهر متناقضة للوصول إلى أهداف المجتمع. هذا جوهر ميدان التحرير حيث تعايش الحجاب مع اللاحجاب، والكنيسة إلى جانب الجامع والديني مع اللاديني، والإسلامي مع العلماني. هذا التعايش والقبول بين طرق حياة وسلوكيات وفلسفات مختلفة أساسي لفهم معاني المرحلة المقبلة التي بالكاد بدأت مع ثورات ٢٠١١.
إن قدرة التيارات الإسلامية على إدارة التغيير مرتبطة بمدى قدرتها على التعامل مع ارث الديكتاتورية. فالحالة العربية أدت إلى قيام أنظمة ديكتاتورية لا تقدر الفرد ولا تحترم خصوصياته ولا تحترم الحريات وترفض مبدأ التداول السلمي على السلطة. في العقود الماضية أصبحت الديكتاتورية رديفاً للعرب وأنظمتهم. إن قدرة الإسلام السياسي على التعامل مع الحريات في ظل تأسيس دور اقل تدخلاً ووصاية من الدولة في العلاقة مع المجتمع والأفراد ستحدد مدى قدرة هذا التيار العريض على تحقيق القطيعة مع تاريخ يعيد إنتاج الديكتاتورية تحت مسميات مختلفة.
إن التناقض الصارخ بين منطلقات التيار الإسلامي التاريخية والدينية وبين سعيه إلى الديمقراطية سيبقى احد اكبر التحديات التي سيواجهها في السنوات المقبلة. فالتيار عبر رموزه وطروحاته يعلن سعيه إلى دولة ديمقراطية، لكنه يعود ويطرح فكرة التدرج في الوصول إلى تطبيقات الشريعة الإسلامية المختلف عليها بين فئات المجتمع. ويطرح التيار تفسيرات تحد من دور المرأة والأقليات وتتناقض مع الحريات الشخصية وتجعل الديمقراطية مجرد رقم حسابي انتخابي خال من الروح والعمق والمجتمع المدني. ويمكن القول انه حتى مع تأكيد التيار عكس ذلك تنتشر بين قطاعات في المجتمع أزمة ثقة تجاه التيار الإسلامي ستكون مرشحة للازدياد أو للتقلص وذلك وفق التوجهات والسلوكيات التي سيمارسها في المرحلة المقبلة تجاه فئات المجتمع وحرياته.
إن كل مرونة تبرز في تيار «الإخوان المسلمين» بالتحديد تجاه المحيط السياسي والاجتماعي تخلق حالة تصالح بينه وبين فئات واسعة من القوى المدنية التي تتعامل مع السياسة بصفتها تنمية وحقوقاً ووسيلة لتحقيق العدالة والازدهار في المجتمع. لكن من جهة أخرى يواجه تيار «الإخوان المسلمين» بالتحديد ضغطاً واضحاً من يمين التيار الديني وعلى الأخص من قبل ظاهرة السلفيين المتنامية. فكل تراجع يقوم به تيار «الإخوان» عن بعض المواقف الدينية الأيديولوجية لمصلحة الفكر المدني بإمكان السلفيين أن يملئوا مساحته بين القواعد الإسلامية الأكثر تشدداً.
ويواجه التيار الإسلامي تيارات في داخله، فهو ليس وحدة واحدة. فهناك «إخوان» الشباب و «إخوان» القيادة الوسطى و «إخوان» الكبار، وبين هذه الأجيال جدل على حدود المرونة والتشدد، وهناك رؤى في صفوف «الإخوان» أقرب إلى السلفية ورؤى مختلفة اقرب إلى المرونة والتقبل والاستعداد للتغير. وفي «الإخوان» ظاهرة استقالات هي الأخرى مرتبطة بالحراك الذي يشهده هذا التيار والضغوط التي يتعرض لها. ويتضح من السياق أن الذين يستقيلون إما يبقون على مواقفهم الملتزمة برؤى التيار أو يتواجهون مع التغير لمصلحة فكر يخلط بين منبعهم الإسلامي وبين تبنيهم لحقوق الإنسان وفكر المساواة والديمقراطية. الكثير من نشطاء المجتمع المدني وحركات مثل حركة ٦ ابريل في مصر من جذور إسلامية لكنهم تجاوزوا الطرح الحزبي لمصلحة طرح أكثر انفتاحاً على الآخر بتنوعاته.
لقد اعتادت التيارات الإسلامية على العيش مع ثنائية كونها أحزاباً دينية تفسر الدين وتسعى إلى تطبيقه وبين كونها أحزابا سياسية تعنى بفن الممكن والمناورة. في زمن المعارضة لم تكن التيارات الإسلامية مضطرة لفض العلاقة بين الاثنين أو لتغليب واحد على الآخر، لكن في زمن وصولها إلى الحكم وفي ظل التغيرات العربية الراهنة ستكون التيارات الإسلامية مضطرة للاهتمام بالاقتصاد والصحة والتعليم والشوارع والبلدية والكهرباء والحقوق والمطالب والأقليات والحريات والمرأة، بصفتها نصف المجتمع، وستكون مضطرة أيضاً لتحقيق الإجماع على كتابة دستور أو تعديل قانون يمس كل الناس، وهذا سيفرض عليها أن تختار بين الديني والمدني بنسب جديدة ووفق توجهات مختلفة.
إن البحث عن مناطق فض التشابك بين الديني والمدني سيمثل في المرحلة المقبلة احد أكبر التحديات التي تواجهها التيارات الإسلامية. سيكون مطلوباً منها التعامل مع الأمر بإبداع ومرونة. إن الاختيار بين القطبين الديني والسياسي من دون التخلي الشامل عن القطب الثاني هو التحدي الأكبر. لكن لو اختارت التيارات الإسلامية الدين بصورته الضيقة على حساب السياسة فستواجه فشلاً وتبتعد عن فرصة تكوين نموذج كالنموذج التركي، وهذا بطبيعة الحال سيستنزفها كما سبق للحركات القومية أن استُنزفت في معارك جانبية. ومن الواضح أن تيار «الإخوان المسلمين» البراغماتي والعملي هو أحد أكثر التيارات الإسلامية استعداداً للتعامل مع موضوعات الانتقال والتحول الجديد، والواضح أيضا أن دخول السلفيين على خط السياسة هو تطور جديد يعد بتحول في المدى المتوسط، لكن الأوضح أن عدم انتقال التيار الإسلامي نحو الفكر المدني ذي الجذور الإسلامية سيمهد الطريق لبروز قوى جديدة من عباءة التيار تنتشر في الوسط المدني والحقوقي وتفتح المجال نحو آفاق جديدة.
اخطر ما يواجه الثورات أن يسعى فصيل وتيار محدد يمثل الغالبية للاستئثار بالسلطة ثم العمل لقمع الآخرين باسم الغالبية. هذا ما يجب أن يتفاداه التيار الإسلامي في هذه المرحلة، بل هذا ما يجب أن يتفاداه كل تيار يحقق غالبية مؤقتة في ميدان الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية وغيره. إن فكر الغالبية الذي يقول أن الـ ٥١ في المئة الفائزين بالانتخابات في إمكانهم أن يفعلوا ما يشاؤون بالـ ٤٩ في المئة الخاسرين هي فكرة مدمرة لكل تنمية وهي فكرة غير ديمقراطية وقفت ضدها كل الطروحات والأنظمة الديمقراطية في التاريخ. لهذا من الضروري وضع حدود للدولة ومدى تدخلها في حياة الأفراد وحقوقهم وذلك بصفتها هيئة تسلطية مائلة بطبيعتها للفساد وسوء استخدام السلطة. هذا ما يجب أن يحذر منه الإسلام السياسي في هذه المرحلة.
إن المرحلة المقبلة تتطلب مراجعات جادة من قبل مجمل التيارات الإسلامية السنية وأيضاً الشيعية (في العراق مثلاً) وذلك من خلال إعادة النظر بالموضوعات الدينية والمدنية والسياسية التي شكلت أساس عملها في سنوات مواجهة قمع الأنظمة. ولهذا سيكون مطلوباً منها تطوير مشروع للنهضة والتنمية يقوم في جوهره على حريات أصيلة للفرد وللمجتمع الكبير المتنوع والمشكّل على رغم غالبيته من أقليات متشابكة.
المصدر: الحياة.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
منبر الحرية،17 أبريل/نيسان2012
2 comments
دينا الزروق
18 أبريل، 2012 at 3:31 م
بأعتقادي لن ينجح الإسلامين في أحترام حقوق الإنسان ، لان ذلك يتنافى مع أدبايتهم القائمة على القمع، والقمع هنا يتم عن طريق إستغلال الدين..
هم أمام أمتحان صعب ،و أنا شبه متأكدة أنهم لن ينجحوا فيه،أنما ستضيع سنوات كثيرة فى جدل عقيم في أمور فترض أنها محسمومة من القرون وهى إحترام حقوق الإنسان و الحريات الفردية ..
تحياتي
Pingback: BARIŞ İÇİNDE BİRLİKTE YAŞAMA VE ETNİK-DİNİ KUTUPLAŞMAYLA MÜCADELE | Sahipkıran Stratejik Araştırmalar Merkezi